رئيس مجلس القضاء الاعلى في الموصل، زيارة تؤسس لمعنى الدولة وقوتها
القضاء العراقي
قراءة في الدلالات
جرير محمد
في توقيتٍ حساس تمرّ به المنطقة حيث الأجواء مشحونة بالحرب الإقليمية والسماء مغلقة أمام الطيران بسبب التصعيد بين إسرائيل وإيران، اختار رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي الدكتور فائق زيدان أن يشق طريقه برًا، وبمرافقة محدودة لا تتجاوز شخصين من الحماية، ليصل إلى الموصل، المدينة التي تختصر مأساة العراق وأمله في آنٍ واحد
هذه الزيارة لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية بل حملت في رموزها ودلالاتها الكثير. لقد كانت زيارة رمزية، ثقيلة بالمعاني، تمضي عكس تيار الخوف والتردد،
رئيس السلطة القضائية الأعلى في البلاد، لم يكتف بلقاءات رسمية مغلقة، بل قرر أن يبيت في المدينة، أن يسير في أحيائها، أن يلمس واقعها، أن يصافح أبناءها، وأن يشاهد بعينه كيف استعادت الحياة ألوانها وسط الركام، وكيف انتفضت من سباتها الذي فرضته الحرب والدمار، لتبني من جديد.
رافقه في هذه الزيارة كل من رئيس الادعاء العام ورئيس هيئة الإشراف القضائي، في إشارة واضحة إلى أن ما يُبنى في الموصل لا يتعلق فقط بالإعمار المادي، بل بإعادة ترسيخ العدالة، وتثبيت ثقة المواطن بالقانون والمؤسسات.
الدكتور زيدان، بتواضعه اللافت، زار الجامع النوري الكبير ومنارة الحدباء، حيث تحطمت الرمزية وانكسرت الصورة قبل أن تعود الحياة إلى المكان. وزار “حوش البيعة” والكنيسة المجاورة، ليؤكد برسالة صامتة عميقة أن نينوى بكل أطيافها ومكوناتها، مسلمة ومسيحية، عربية وكردية وتركمانية، هي في عين القضاء وفي قلب الدولة.
الزيارة ليست حدثًا عابرًا، بل رسالة واضحة لأبناء الموصل: أن مدينتكم، رغم كل الجراح، ليست مهمشة ولا منسية. وأن عودتها إلى الريادة ليست حلمًا، بل ممكنة، حين تتظافر الإرادة، وحين يعي أهلها أهمية هذا الدعم، فيصوغوا تجربتهم الخاصة في النهوض، كما صنعت شعوب حية نهضتها من تحت الركام.
وان دلالات هذه الزيارة تتصل بجوهر الدولة وهي سيادة القانون، واستعادة الثقة، وتثبيت حضور الدولة العادلة القوية
وهنا تستحضر رائعة شاعر الموصل الدكتور وليد الصراف “الموصل العنقاء” وقوله فيها
ادري على صدرك الانقاض قد جثت
وانها سدت الافق الذي رحبا
ادري ولكنك العنقاء مادفنت
الا واشور من تابوتها وثبا
وهذا ما رآه رئيس مجلس القضاء الأعلى بعينه. رأى شعبًا لم يرضخ للارهاب ومدينة تشق طريقها ببطء ولكن بإصرار، نحو الحياة.
إنها دعوة ضمنية من الرئيس زيدان لكل أبنائها: استثمروا هذه الثقة، وصوغوا نموذجكم في إعادة الإعمار، ليس بالمباني وحدها، بل ببناء الوعي، والمؤسسات، والقيم، والنسيج المجتمعي.
لتكن الموصل، مرةً أخرى، رائدة كما كانت، ومصدر إلهام لكل العراق.
فمثل هذه الزيارات، في زمنٍ مضطرب، تقاس بدلالتها الوطنية والسياسية والإنسانية، وهي تؤكد أن الدولة حاضرة، وأن عين القانون ترى، وتتابع، وتقف مع الناس.
وان هذه الزيارة ليست فقط دلالة على التضامن، بل هي إعلان عميق بأن ظهر المدينة ليس مكشوفًا، وأن في البلد مؤسسات تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن من يحاول استغلال لحظة ضعف الدولة أو تجاوز القانون، سيجد أمامه مؤسسة لا تُشترى ولا تُخيفها التجاذبات
تُذكر هذه الرسائل الصامتة في وقت حساس، حيث ما زالت بعض الظواهر الخارجة عن القانون تحاول استغلال هشاشة المراحل الانتقالية في الدولة، وغياب اليقين أحيانًا لدى الناس، ليُعاد رسم مفهوم “القوة” خارج السياق القانوني والمؤسسي.
وهنا تحديدًا، تكتسب زيارة رئيس مجلس القضاء الأعلى معناها الأخطر والأهم:
أن لا قوة خارج القانون، ولا نفوذ يتقدم على الدستور، ولا حماية لأحد فوق العدالة.
وهي كذلك رسالة للأهالي: أن القضاء معكم، لا يتفرج من نوافذ المكاتب، بل يمشي على الأرض التي مشيتم عليها حين قاتلتم من أجل البقاء، ويؤمن أن نهوضكم من تحت الركام ليس أسطورة، بل حقيقة يمكن أن تُبنى بإرادتكم ومؤسسات الدولة التي تحمي هذه الإرادة.
لقد أعادت هذه الزيارة الاعتبار للموصل، لا كضحية فقط بل كحاضنة لمشروع نهوض وطني. وهي تذكرة مهمة لأهلها، أن الدعم حين يأتي من رأس الهرم القضائي، يجب أن يُستثمر ليس سياسياً فقط، بل مجتمعيًا وثقافيًا، في بناء نموذج متكامل للنهضة
ويمكن أن تكون مرة أخرى في مقدمة المشروع الوطني لبناء دولة عراقية حديثة قوية، تستند إلى القانون، لا إلى العشيرة أو المليشيا أو الفوضى
الموصل لا تموت، والمستقبل بيد أهلها.